في اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية بعد إفطار الخميس، تلا رئيس السلطة البيان الختامي بنفسه، وكان قد بدأ الجلسة بنفسه أيضا، إذ ليس هناك مؤسسة دستورية فلسطينية، يحضر رئيسها لكي يقدمه. وكان جوهر البيان هو تأجيل الانتخابات دون تحديد موعد لها، بحيث تكون رهناً بموافقة الحكومة الإسرائيلية على إجرائها في داخل البلدة القديمة من القدس الشرقية. وسرعان ما سُمعت في الضفة وغزة، صرخات وشعارات الرفض لهذا التأجيل، واعتبرت القوائم الانتخابية الــ35 ما عدا قائمة رئيس السلطة أن القرار وتعليله يمنحان الحكومة الإسرائيلية حق الاعتراض (الفيتو) على أيّ عملية ديمقراطية فلسطينية. فمن المعلوم يقيناً أن من مصلحة أيّ حكومة إسرائيلية، أياً كان من يشكلها ويرأسها، أن لا يتمكن الشعب الفلسطيني من اختيار قيادته وإعادة العمل بالوثيقة الدستورية. فالرئيس عباس، لكي يبقى على رأس السلطة، أعلن عن نيته انتظار ما لا يأتي، وهو أن توافق إسرائيل على انتخابات تُنهي الانقسام الفلسطيني وتتيح لشعب فلسطين إعادة إحياء نظامه السياسي.
كانت لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية، قد أعطت جواباً منطقياً يتعلق بالتصويت في القدس، فقالت إن 150 ألف مقدسي قادرون على الإدلاء بأصواتهم في إحيائهم، وأقل من ربع المقدسيين، هم المعرضون للفيتو الإسرائيلي، وقالت اللجنة نفسها إن هناك العديد من التدابير التي يمكن أن تؤمن لهم الحق في التصويت. وفي الوقت الذي رأت فيه القوائم والقوى السياسية أن موضوع تصويت المقدسيين متاح ولكن عباس يستخدمه كذريعة، ظهرت تلميحات وإشارات بأن الرجل لن يتخلى عن سيطرته، وهو يتوخى عملية محاصصة مع حماس، أي تشكيل حكومة يخلع عليها صفة “الوحدة الوطنية” لاستمرار ممارسة صلاحياته دون تفويض شعبي، ودون قدرة لأيّ طرف على مساءلته. قرار عباس إلغاء الانتخابات تحت عنوان التأجيل يعكس في جزء من مقاصده حقيقة وجود مشكلة موضوعية لدى كُلٍّ من سلطتي رام الله وغزة، وإن كانت السلطتان تتكتمان في هذه المرحلة على هذه الحقيقة الموضوعية.
العملية الانتخابية، في أقصى غاياتها، في حسابات القوى السياسية والاجتماعية، يمكن أن تؤدي إلى تخفيف ثقل السلطتين على الناس. ولكن من الاستحالة ـ مع الأسف ـ أن تؤدي أي عملية انتخابية إلى رفع الثقل كله. وهذا كلام إن لم تكن القوى الفلسطينية التي تهيأت للانتخابات قد درسته واستخلصته؛ فإنها تُعتبر قصّرت في دراسة الأمر أو غفلت عنه. مبتدأ هذه المقاربة أن ما في يد سلطتي رام الله وغزة، الآن، يصعب عليهما التخلي عنه، مالاً وسلاحاً ونفوذاً. والمتفائلون بموضوعية كانوا يطمحون إلى صيغة شراكة وطنية تضبط موضوع المال، إلى الحد المقبول وليس إلى الحد الأقصى، وتؤطر السلاح دستورياً كقوة دفاع وطني مكفول حقها لكل شعب ومفتوحة له وعليه، تجنيداً وتكليفاً، لكي يدافع عن نفسه في حال الاعتداء. وهذا يمكن أن يحدث بفضل تعدد القوائم التي تشتت الأصوات، وتضطر القوى الوازنة إلى الائتلاف، وتشكيل حكومة تستطيع أن تعبر المرحلة، على أن يُتاح لسيرورات التاريخ، وهي فوق قدرة أيّ أحد على ضبطها، أن تفعل فعلها في اتجاه التصويب البات. معظم هذه الاستحقاقات ـ وليس كلها ـ استعدّت لها حماس افتراضاً، وراهنت على قناعتها بأن عباس لن يرضى بأقل من استمرار سيطرته على السياقات والقضايا الأساسية. وهذا هو عين السبب الذي جعله، لكي يضمن هذا الوضع، يقبل بقائمة مشتركة مع حماس، وأن يشترط قبل ذلك أن تكون الانتخابات متتابعة (تشريعية ثم رئاسية ثم لمنظمة التحرير). فلم يتزحزح عن ذلك الشرط، لكن حماس تنبهت لمقاصده ورفضت وإن سايرته في موضوع التتابع لا التزامن الانتخابي.